فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

{ماذا} استفهام عن المنفق بفتح الفاء ومعنى الاستفهام عن المنفق السؤال عن أحواله التي يقع بها موقع القبول عند الله، فإن الإنفاق حقيقة معروفة في البشر وقد عرفها السائلون في الجاهلية. فكانوا في الجاهلية ينفقون على الأهل وعلى الندامى وينفقون في الميسر، يقولون فلان يتمم أيساره أي يدفع عن أيساره أقساطهم من مال المقامرة ويتفاخرون بإتلاف المال. فسألوا في الإسلام عن المعتدِّ به من ذلك دون غيره، فلذلك طابق الجوابُ السؤال إذ أجيب: {قُل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين}، فجاء ببيان مصارف الإنفاق الحق وعرف هذا الجنس بمعرفة أفراده، فليس في هذا الجواب ارتكاب الأسلوب الحكيم كما قيل، إذ لا يعقل أن يسألوا عن المال المنفق بمعنى السؤال عن النوع الذي ينفق من ذهب أم من ورق أم من طعام، لأن هذا لا تتعلق بالسؤال عنه أغراض العقلاء، إذ هم يعلمون أن المقصد من الإنفاق إيصال النفع للمنفق عليه، فيتعين أن السؤال عن كيفيات الإنفاق ومواقعه، ولا يريبكم في هذا أن السؤال هنا وقع بما وهي يسأل بها عن الجنس لا عن العوارض، فإن ذلك اصطلاح منطقي لتقريب ما ترجموه من تقسيمات مبنية على اللغة اليونانية وأخذ به السكاكي، لأنه يحفل باصطلاح أهل المنطق وذلك لا يشهد له الاستعمال العربي. اهـ.
قال ابن عاشور:
اللام في {للوالدين} للمِلْك، بمعنى الاستحقاق أي فالحقيق به الوالدين أي إن تنفقوا فأنفقوا للوالدين أو أعطوا للوالدين، وقد تقدم بيانهم في قوله تعالى: {وآتى المال على حبه ذوي القربى} [البقرة: 177] الآية.
والآية دالة على الأمر بالإنفاق على هؤلاء والترغيب فيه، وهي في النفقة التي ليست من حق المال أعني الزكاة ولا هي من حق الذات من حيث إنها ذات كالزوجة، بل هذه النفقة التي هي من حق المسلمين بعضهم على بعض لكفاية الحاجة وللتوسعة وأولى المسلمين بأن يقوم بها أشدهم قرابة بالمعوزين منهم، فمنها واجبة كنفقة الأبوين الفقيرين والأولاد الصغار الذين لا مال لهم إلى أن يقدروا على التكسب أو ينتقل حق الإنفاق إلى غير الأبوين، وذلك كله بحسب عادة أمثالهم. اهـ.

.قال الفخر:

قال بعضهم: هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وهذا ضعيف لأنه يحتمل حمل هذه الآية على وجوه لا يتطرق النسخ إليها:
أحدها: قال أبو مسلم الإنفاق على الوالدين واجب عند قصورهما عن الكسب والملك، والمراد بالأقربين الولد وولد الولد وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك، وإذا حملنا الآية على هذا الوجه فقول من قال أنها منسوخة بآية المواريث، لا وجه له لأن هذه النفقة تلزم في حال الحياة والميراث يصل بعد الموت، وأيضًا فما يصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقة.
وثانيها: أن يكون المراد من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات فيقدم الأولى فالأولى فيكون المراد به التطوع.
وثالثها: أن يكون المراد الوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية وفيما يتصل باليتامى والمساكين مما يكون زكاة.
ورابعها: يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثًا على صلة الرحم وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة فظاهر الآية محتمل لكل هذه الوجوه من غير نسخ. اهـ.

.قال القرطبي:

واجب على الرجل الغنيّ أن ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله، من طعام وكُسوة وغير ذلك. قال مالك: ليس عليه أن يزوّج أباه، وعليه أن ينفق على امرأة أبيه؛ كانت أُمُّه أو أجنبية، وإنما قال مالك: ليس عليه أن يزوّج أباه لأنه رآه يستغني عن التزويج غالبًا، ولو احتاج حاجة ماسة لوجب أن يزوّجه، لولا ذلك لم يوجب عليه أن ينفق عليهما. فأما ما يتعلق بالعبادات من الأموال فليس عليه أن يعطيه ما يحج به أو يغزو؛ وعليه أن يخرج عنه صدقة الفطر؛ لأنها مستحقة بالنفقة والإسلام. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما خص من ذكر عمم وبشر بقوله: {وما تفعلوا من خير} أي مما يعد خيرًا من عين أو معنى من هذا أو غيره مع هؤلاء أو غيرهم {فإن الله} المحيط علمًا وقدرة بكل شيء. ولما كان على طريق الاستئناف في مقام الترغيب والترهيب لكونه وكل الأمر إلى المنفقين وكان سبحانه عظيم الرفق بهذه الأمة أكِد علمه بذلك فقدم بذلك فقدم الظرف إشارة إلى أن له غاية النظر إلى أعمالهم الحسنة فقال: {به عليم} أي بالغ العلم وهو أولى من جازى على الخير. وقال الحرالي: ختم بالعلم لأجل دخول الخلل على النيات في الإنفاق لأنه من أشد شيء تتباهى به النفس فيكاد لا يسلم لها منه إلا ما لا تعلمه شمالها التي هي التفاتها وتباهيها ويختص بيمينها التي هي صدقها وإخلاصها- انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} تذييل والمقصود من قوله: {فإن الله به عليم} الكناية عن الجزاء عليه، لأن العليم القدير إذا امتثل أحد لأمره لا يحول بينه وبين جزائه عليه حائل. وشمل عمومُ {وما تفعلوا من خير} الأفعالَ الواجبة والمتطوع بها فيعم النفقات وغيرها. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقرأ عليّ بن أبي طالب: {ما يفعلوا} بالياء، فيكون ذلك من باب الالتفات، أو من باب ما أضمر لدلالة المعنى عليه، أي: وما يفعل الناس، فيكون أعم من المخاطبين قبل، إذ يشملهم وغيرهم، وفي قوله: من خير، في الإنفاق يدل على طيب المنفق، وكونه حلالًا، لأن الخبيث منهي عنه بقوله: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} وما ورد من أن الله طيب لا يقبل إلاَّ الطيب، ولأن الحرام لا يقال فيه خير. وقوله: من خير في قوله: وما تفعلوا، هو أعم: من، خير، المراد به المال، لأنه ما يتعلق به هو الفعل، والفعل أعم من الإنفاق، فيدخل الإنفاق في الفعل، فخير، هنا هو الذي يقابل الشر، والمعنى: وما تفعلوا من شيء من وجوه البر والطاعات وجعل بعضهم هنا: وما تفعلوا، راجعًا إلى معنى الإنفاق، أي: وما تفعلوا من إنفاق خير، فيكون الأول بيانًا للمصرف، وهذا بيان للمجازاة، والأوْلى العموم، لأنه يشمل إنفاق المال وغيره، ويترجح بحمل اللفظ على ظاهره من العموم.
ولما كان أولًا السؤال عن خاص، أجيبوا بخاص، ثم أتى بعد ذلك الخاص التعميم في أفعال الخير، وذكر المجازاة على فعلها، وفي قوله: {فإن الله به عليم} دلالة على المجازاة، لأنه إذا كان عالمًا به جازى عليه، فهي جملة خبرية، وتتضمن الوعد بالمجازاة. اهـ.

.قال في الميزان:

قوله تعالى: {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم}، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هاهنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إيماء إلى أن الإنفاق وإن كان مندوبا إليه من قليل المال وكثيره، غير أنه ينبغي أن يكون خيرا يتعلق به الرغبة وتقع عليه المحبة كما قال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} آل عمران- 92، وكما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} البقرة- 267.
وإيماء إلى أن الإنفاق ينبغى أن لا يكون على نحو الشر كالإنفاق بالمن والأذى كما قال تعالى: {ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى} البقرة- 262، وقوله تعالى: {ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو} البقرة- 219. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.فائدة في مراعاة الترتيب في الإنفاق:

اعلم أنه تعالى راعى الترتيب في الإنفاق، فقدم الوالدين، وذلك لأنهما كالمخرج له من العدم إلى الوجود في عالم الأسباب، ثم ربياه في الحال الذي كان في غاية الضعف، فكان إنعامهما على الابن أعظم من إنعام غيرهما عليه، ولذلك قال تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين} [الإسراء: 23] وفيه إشارة إلى أنه ليس بعد رعاية حق الله تعالى شيء أوجب من رعاية حق الوالدين، لأن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود في الحقيقة، والوالدان هما اللذان أخرجاه إلى عالم الوجود في عالم الأسباب الظاهرة، فثبت أن حقهما أعظم من حق غيرهما فلهذا أوجب تقديمهما على غيرهما في رعاية الحقوق، ثم ذكر تعالى بعد الوالدين الأقربين، والسبب فيه أن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء، بل لابد وأن يرجح البعض على البعض، والترجيح لابد له من مرجح، والقرابة تصلح أن تكون سببًا للترجيح من وجوه أحدها: أن القرابة مظنة المخالطة، والمخالطة سبب لاطلاع كل واحد منهم على حال الآخر، فإذا كان أحدهما غنيًا والآخر فقيرًا كان اطلاع الفقير على الغني أتم، واطلاع الغني على الفقير أتم، وذلك من أقوى الحوامل على الإنفاق وثانيها: أنه لو لم يراع جانب الفقير، احتاج الفقير للرجوع إلى غيره وذلك عار وسيئة في حقه فالأولى أن يتكفل بمصالحهم دفعًا للضرر عن النفس وثالثها: أن قريب الإنسان جار مجرى الجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير، فلهذا السبب كان الإنفاق على القريب أولى من الإنفاق على البعيد، ثم إن الله تعالى ذكر بعد الأقربين اليتامى، وذلك لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب ولكونهم يتامى ليس لهم أحد يكتسب لهم، فالطفل الذي مات أبوه قد عدم الكسب والكاسب.
وأشرب على الضياع، ثم ذكر تعالى بعدهم المساكين وحاجة هؤلاء أقل من حاجة اليتامى لأن قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى ثم ذكر تعالى بعدهم ابن السبيل فإنه بسبب انقطاعه عن بلده، قد يقع في الاحتياج والفقر، فهذا هو الترتيب الصحيح الذي رتبه الله تعالى في كيفية الإنفاق، ثم لما فصل هذا التفصيل الحسن الكامل أردفه بعد ذلك بالإجمال فقال: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} أي وكل ما فعلتموه من خير إما من هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله وطلبًا لجزيل ثوابه وهربًا من أليم عقابه فإن الله به عليم، والعليم مبالغة في كونه عالمًا يعني لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه كما قال: {لإنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} [آل عمران: 195] وقال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ}.
السؤال يتعدى للمحسوسات بنفسه، ويكون معموله مفردا مثل: سألته طهورا، أي طلبت منه الماء، وللمُعاين كذلك، ويكون جملة مثل: سألته ماء هو الطهور.
الزمخشري: سألوا عن تعيين المنفق فأجيبوا بتعيين المصرف لأنه يستلزم المنفق.
قال ابن عرفة: جعل السؤال هنا عن حال الشيء ويظهر لي وجه آخر وهو أن السؤال بماذا عن حقيقة الشيء وهي قسمان: عقلية وشرعية.
فالعقلية لا يختلف جوابها بوجه ولا يمكن فيه التحريف، وأما الشرعية فهي أمور جعلية يصح تحريف الشّارع لها عن شيء آخر، فالمراد: يسألونك عن حقيقة الشيء المنفق المحصل للثواب في الدار الآخرة ما هو؟ فأجيبوا بأنه الشيء المنفق على الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وفعل الخير بالإطلاق.
قوله تعالى: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل}.
مَا إما شرطية أو موصولة.
قال ابن عرفة: الظاهر أنها شرطية، لأن فعل الشرط مستقبل ولو كانت موصولة لما حسن ترتيب الجواب عليها، لأنهم لم يكن إنفاقهم الماضي قاصرا على الوالدين والأقربين ومن بعدهم، بل عاما فيهم وفي غيرهم، فإنَّما أمروا بذلك في المستقبل.
قيل لابن عرفة: قد قال ابن مالك: إنّ الفعل بعد الموصول يحتمل الحال والاستقبال.
قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}.
علله بالعلم والمراد لازمه وهو حصول الثواب الجليل عليه.
فإن قلت: الآية تدل على أن الأب مساوٍ للأم في البر لتسويتهما في النفقة عليهما؟
قلنا: الآية إنّما تضمنت مطلق الإنفاق عليهما من غير تعرض لما بينهما من التفاوت، بدليل تضمنهما أيضا النفقة على الأقربين بالإطلاق، مع أنّهم متفاوتون لأن القرابة مقولة بالتشكيك، فالنفقة على أقرب الأقربين تكون أكثر من النفقة على من هو أبعد منه. وابن السبيل هو المسافر إذا قدم على بلد هو فيها فقير ويكون في بلده غنيا، فإن كان فقيرا في بلده فهو مسكين. اهـ.